كارين أرمسترونغ
في غضون القرن السادس عشر، وعن طريق التجربة والخطأ تقريباً، بدأ شعب أوروبا، وما سيصبح فيما بعد الولايات المتحدة الأميركية، بإبداع حضارة لا سابق لها في تاريخ العالم، وقد انتشرت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين إلى أجزاء أخرى من الكرة الأرضية. كانت هذه آخر الثورات العظيمة في التجربة الإنسانية. وكان لها تأثير عميق، مثل اكتشاف الزراعة أو اختراع المدينة، والذي بدأنا نقدر نتيجته الآن. ذلك أن الحياة لن تكون نفسها بعد الآن، وربما كانت النتيجة الأكثر خطورة والكارثية لهذه التجربة الجديدة هي موت الميثولوجيا.
كانت الحداثة الغربية هي بنت اللوغوس. تأسست على أساس اقتصادي مختلف. فبدلاً من الاعتماد على فائض إنتاج زراعي مثل كل الحضارات ما قبل الحديثة، تأسست المجتمعات الغربية الجديدة على الاستثمار التكنولوجي للمصادر الطبيعية وإعادة استثمار رأس المال المتواصلة. وقد تحرّر هذا المجتمع الحديث من كثير من قيود الثقافات التقليدية، التي كانت قاعدتها الزراعية معرضة لأخطار دائمة. لأن أي اختراع أو فكرة تتطلب الكثير من النفقات كانت تُوضع على الرف أما مجتمعنا فقد استطاع تحقيق الإنتاج المتواصل للبنية الفوقية الذي نسلم به اليوم. كانت المجتمعات الزراعية معرضة للخطر لأنها تعتمد دومًا على متغيرات مثل تقلب المواسم وحت التربة. لذا كان على الإمبراطوريات القديمة أن تزيد من التزاماتها وتوسّع قاعدتها المادية. أما الغرب فقد طوّر اقتصاداً بدا بوضوح وبنحو غير محدود قابلاً للتجديد. وبدلاً من النظر إلى الماضي والحفاظ على ما تم إنجازه، مثلما درجت العادة لدى الحضارات ما قبل الحديثة، بدأ الغربيون النظر إلى الأمام. واشتملت عملية التحديث الطويلة التي استغرقت ثلاثة قرون في أوروبا على سلسلة من التغيرات العميقة: كالتصنيع، وتحويل الزراعة والثورات السياسية والاجتماعية لإعادة تنظيم المجتمع من أجل تلبية الأوضاع الجديدة بالإضافة إلى "تنوير" فكري استخف بالأسطورة وعدَّها بلا فائدة ومزيفة وعتيقة الطراز.
اعتمد الإنجاز الغربي على انتصار الروح العلمية البراغماتية. وكانت الكفاية هي كلمة السر. وكان ينبغي أن يعتمد كل شيء على العقل، وأن يُبرهن عقلياً على كل فكرة جديدة أو ابتكار جديد وأن ينسجما مع العالم الخارجي. وعلى عكس الأسطورة، ينبغي الآن أن ينسجم اللوغوس مع الحقائق؛ فاللوغوس جوهرياً عملي وهو نمط من الفكر نستخدمه حين نريد أن نُنجز أمراً وهو ينظر دوماً إلى الأمام كي يحقق سيطرة أكبر على بيئتنا أو كي يكتشف شيئاً جديداً. وصار البطل الجديد للمجتمع الغربي هو العالِم أو المُخْتَرِع الذي راح يغامر في حقول مجهولة من أجل مجتمعه. وكان عليه أن يطيح بالمقدسات القديمة مثلما فعل حكماء العصر المحوري. لقد كان أبطال الحداثة الأوربية هم عباقرة اللوغوس التكنولوجيون أو العلميون، ولم يكونوا العباقرة الروحيين الذين يُلهمهم الميتوس. وأدّى هذا إلى إهمال أنماط الفكر الحدسية الأسطورية وإلى التركيز على الروح الأكثر براغماتية ومنطقية للعقلانية العلمية. ولأن معظم الغربيين لم يستخدموا الأسطورة، فإنهم لن يفهموا مغزاها.
كان هناك تفاؤل جديد في الغرب. وشعر الناس بأنهم يمتلكون سيطرة أكبر على البيئة. ولم يعد هناك قوانين مقدسة ثابتة. واستطاع الغربيون، بفضل اكتشافاتهم العلمية، التحكم بالطبيعة وتحسين أقدارهم. وأدت اكتشافات الطب الحديث وعلم الصحة والتكنولوجيا المسخرة للعمل وطرق النقل المحسّنة إلى تثوير حياة الغربيين ودفعها نحو الأفضل. ولكن اللوغوس لم يكن قادراً أبداً على تزويد البشر بإحساس بالأهمية التي كانوا بحاجة إليها. وكانت الأسطورة هي التي منحت الحياة مبنى ومعنى، ولكن فيما كان التحديث يتواصل ويُنجز اللوغوس نتائج ضخمة كهذه، كانت الميثولوجيا تخضع للتشويه بنحو زائد. وفي بداية القرن السادس عشر ظهرت أدلة متزايدة على يأس مخدِّر أو شلل عقلي زاحف وإحساس بالعجز والخيبة حين تقوّضت طريقة التفكير الأسطورية القديمة ولم يظهر شيء جديد كي يحلّ محلّها. وها نحن أولاد اليوم نلمح استلاباً جديداً في البلدان النامية التي ما تزال في المراحل الأولى للتحديث.
كان هذا الاستلاب في القرن السادس عشر واضحاً لدى المصلحين الذين حاولوا جعل الدين الأوربي أكثر عصرنة وحداثة وفعالية. وكان مارتن لوثر (١٤٨٣-١٥٥٦) دوماً فريسة لأحزان مؤلمة ونوبات غضب. أما أولريخ زوينجلي (١٤٨٤-١٥٣١) وجون كالفن (١٥٠٩-٦٤) فقد كانا يائسين مثل لوثر إزاء تجارب الوجود البشري: وقد دفعهم هذا الحال المرضي إلى العثور على حل. وأظهرت مسيحيتهم التي كافحوا من أجل إصلاحها مدى معاداة الروح الحديثة البازغة للوعي الأسطوري. ففي الدين ما قبل الحديث كان الشبه بين الرمز ومدلوله يُعد هوية، وهكذا كان الرمز متوحداً مع الحقيقة التي يرمز إليها. أما الآن، فيرى المصلحون أن شعيرة مثل سر القربان المقدس هي "مجرد" رمز: شيء ما منفصل جوهرياً. وعلى غرار أي شعيرة ما قبل حديثة كان القداس يعيد تمثيل موت المسيح وتضحيته، ولأنه كان أسطورياً فقد كان لازمانياً، وهو ما كان يجعله حاضراً. وقد عدّه المصلحون الآن ذكرى حدث منصرم فحسب. وكان هناك تشديد جديد على الكتاب المقدس ولكن الاختراع الحديث للطباعة والانتشار الجديد الواسع للتعلم غيّر فهم الناس للنص المقدس. بعد أن حلت القراءة الصامتة المنعزلة محل التلاوة الطقسية. وصار بوسع الناس أن يعرفوا الآن الكتاب المقدس بنحو مفصّل ويمتلكوا حوله آراء خاصة، وبما أنه لم يعد يُقرأ الآن في سياق طقسي، صار من السهل مقاربته بطريقة علمية من أجل المعلومات الحقيقية، كأي نص حديث آخر.
أثار الكثير من المكتشفات الحديثة مشكلات أيضاً على غرار معظم الأشياء في الحياة. فقد دشن علم الفلك الجديد وجهة نظر مثيرة في الكون. وعدَّ نيكولاس كوبرنيكوس (١٤٣٧-١٥٣٤) استقصاءاته العلمية كنشاط ديني مفعم بالروع. ولكن نتائج مكتشفاته كانت مزعجة. فبينما جعلت الأسطورة البشر يؤمنون أنهم يعيشون في مركز الكون، تبيّن لهم الآن بأنهم في مكان هامشي في كوكب يصعب تمييزه يدور حول نجم ثانوي. ولم يعد بوسعهم الثقة بإدراكهم الحسي، لأن الأرض التي بدت ثابتة كانت في الحقيقة في حركة سريعة. وقد شجّعهم هذا بنحو متزايد على امتلاك آراء خاصة، ولكنهم أصبحوا مستعبدين بنحو متزايد لـ "الخبراء" الحديثين الذين يستطيعون وحدهم فك شفرة طبيعة الأشياء.
قام فرانسيس بيكون (١٥٦١- ١٦٢٦) في بريطانيا بإعلان استقلال العلم، كي يعتقه من أغلال الميثولوجيا. ففي كتابه تقدم العلم (١٦٠٥) أعلن عن انبلاج حقبة جديدة ومجيدة يضع فيها العلم حداً للبؤس الإنساني وينقذ العالم. لذا ينبغي أن تخضع جميع أساطير الأديان لنقد قاس فإذا ناقضت الحقائق المثبتة فيجب أن تُرمى جانباً. والعقل هو الذي يجعل الحقائق متاحة. وكان العالم الأول الذي استوعب بنحو كامل هذه الروح التجريبية هو على الأرجح السير إسحق نيوتن (١٦٤٢-١٧٢٧) الذي صنع تركيباً لإبداعات أسلافه باستخدام صارم للمناهج العلمية المتطورة للتجربة والاستنتاج. واعتقد أن عليه أن يقدم لأخوته البشر معلومات جديدة مؤكدة عن العالم، ورأى أن النظام الكوني الذي اكتشفه يتناغم بنحو كامل مع الحقائق العلمية، والتي برهنت على وجود الله، "الميكانيكي" العظيم الذي أبدع الآلة المعقدة للوجود.
هذا الانغماس الكلي في اللوغوس جعل من المستحيل على نيوتن أن يهتم بالأشكال الأكثر حدسية من الإدراك. كانت الميثولوجيا والتصوف بالنسبة له نمطي تفكير بدائيين. وشعر أن لديه مهمة هي تطهير المسيحية من عقائد نافلة مثل التثليث، تتحدى قوانين المنطق. ولكنه لم يكن قادراً على رؤية أن هذه العقيدة أو غيرها قد اخترعها علماء اللاهوت في القرن الرابع كأسطورة شبيهة بأسطورة القباليين اليهود. وهذا ما بيّنه غريغوريوس أسقف نيسا (٣٣٥- ٣٩٥) حين قال بأن الآب والابن والروح القدس ليسوا حقائق أنطولوجية موضوعية وإنما مجرد "مصطلحات نستخدمها" كي نعبّر عن الطريقة التي نكيِّفُ بها الطبيعة الإلهية "التي لا تُسمّى ولا تُوصف" مع حدود أذهاننا البشرية. وهي غير قابلة للبرهان مثلها مثل المعنى الغامض للموسيقى أو الشعر. ولكن نيوتن لم يستطع أن يحاكم التثليث إلا عقلياً. فهو يرى أن أي شيء لا يُمكن تفسيره منطقياً، فهو مزيّف. وقد كتب بانفعال: "إن المزاج الحار والخرافي لدى البشرية في قضايا الدين مولع دوماً بالأسرار ولهذا السبب فهم يحبون أكثر ما يفهمونه أقل". لم يعد علماء الكون اليوم يؤمنون بإله نيوتن العقلاني، ولكن كثيراً من الغربيين يشاطرونه تفضيله للعقل وعدم ارتياحه إزاء الأسطورة، حتى في المسائل الدينية. وهم يعتقدون، مثل نيوتن، بأن الله يجب أن يكون حقيقة موضوعية، حقيقة قابلة للبرهان. ومن هنا عانى عدد كبير من المسيحيين الغربيين من مشكلات مع الثالوث الأقدس. وفشلوا مثل نيوتن في فهم أن أسطورة الثالوث الأقدس وُضعت لتذكير المسيحيين بأن عليهم ألا يحاولوا أن يفكروا بالله من زاوية شخصية بسيطة.
صار اللوغوس والأسطورة على طرفي نقيض. وقد وُضع العلم حتى الآن داخل ميثولوجيا شاملة شرحت مغزاه. وقد شعر عالم الرياضيات الفرنسي بليز باسكال (١٦٢٣- ٦٢)، والذي كان متديناً بعمق، شعر بالرعب حين تأمل "الصمت الأبدي" للكون اللامتناهي الذي دشنه العلم الحديث:
”حين أرى الحالة العمياء والبائسة للبشر، وأرى إلى الكون كله في مواته، وكيف تُرك الإنسان وحيداً دون ضوء كأنه ضائع في زاوية من زوايا الكون جاهلاً من وَضَعَه هناك، وما الذي ينبغي أن يفعله، أو ما الذي سيصير إليه بعد موته، عاجزاً عن معرفة أي شيء، فإنني أشعر بالرعب، كشخص نُقل أثناء نومه إلى جزيرة مهجورة مخيفة، وحين يستيقظ يجد نفسه ضائعاً دون وسائل للنجاة. والعجيب كيف أن حالة بائسة كهذه لا تدفع الناس إلى اليأس“.
هكذا غدا هذا النوع من الاستلاب جزءاً من التجربة الحديثة. فقد بدا كأن الضباب انقشع في عصر الأنوار، في القرن الثامن عشر. وأدرك جون لوك (١٦٣٢- ١٧٠٤) أن من المستحيل إثبات وجود المقدس ولكن لم يعتوره شك بأن الله موجود وأن الإنسانية دخلت حقبة أكثر إيجابية. ورأى فلاسفة التنوير الألمان والفرنسيون أن الزمن تجاوز الأديان القديمة الأسطورية والصوفية. وهكذا رأى عالم اللاهوت البريطاني جون تولاند (١٦٧٠- ١٧٢٢) وماثيو تندال (١٦٥٥-١٧٣٣) . فاللوغوس وحده يستطيع أن يقودنا إلى الحقيقة وعلى المسيحية أن تتخلص مما فيها من الغامض والأسطوري. وصارت الأساطير القديمة تُفسّر وكأنها خرافات ساذجة، وهذا تطور جديد تماماً كان لا بد له من أن يسبّب خيبة أمل، لأن هذه القصص الأسطورية ليست ولم تكن أبداً حقيقية.
وبنحو ينطوي على مفارقة، شهد عصر العقل انفجاراً للاعقلانية. وأظهر الحماس الجماعي الجنوني لاصطياد السحرة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والذي انتشر في البلدان الكاثوليكية والبروتستانتية في أوروبا، أن العقلانية العلمية لا تتمكن دوماً من أن تمنع ظهور القوى الأكثر ظلمة للعقل. كان جنون السحر فنتازيا شيطانية جماعية أدت إلى إعدام وتعذيب الآلاف من الرجال والنساء. واعتقد الناس بأن الساحرات يمارسن الجنس مع الشيطان، ويطرن في الجو كي يحضرن طقوساً شيطانية عربيدة. ودون أن يمتلكوا ميثولوجيا قوية لتفسير مخاوف الناس اللاواعية، حاولوا عقلنة هذه المخاوف وتحويلها إلى "حقيقة". وهكذا كان اللاعقل المخيف والهدّام دوماً جزءاً من التجربة البشرية، وهو ما يزال كذلك. وقد ظهرت بقوة في الحركات المسيحية الجديدة محاولات لترجمة مثُل التنوير إلى صيغة دينية. وسُمّيَ المرتعدون (الصاحبيون) بهذا الاسم لأنهم كانوا يرتعدون ويصرخون أثناء اجتماعاتهم. أما البيوريتانيون (التطهريون)، والذين كان كثير منهم رأسماليين ناجحين وعلماء نابغين، فكانت لهم أيضاً روحانية عنيفة وتجارب تدين مَرَضية، ولم يكن كثيرون منهم مجهزين بنحو جيد لممارستها. فأُصيب عدد منهم بحالات اكتئاب، وانتحر البعض الآخر. ويُمكن أن تُلمح هذه الأعراض نفسها في اليقظة العظيمة الأولى في نيوإنجلاند (١٧٣٤-٤٠). كان الجميع يحاولون أن يصبحوا متصوفين ويحققوا حالات نفسية بديلة. ولكن الحالات العليا للتصوف لم تكن في متناول الجميع. فهي تقتضي موهبة ومزاجاً وتدريباً من شخص لشخص، لأن تجربة جماعة من الأفراد غير المتعلمين وغير المتمتعين بالمهارات يمكن أن تقود إلى هستريا جماعية وحتى إلى مرض ذهني.
وفي القرن التاسع عشر بدأ الناس في أوروبا يفكرون بأن الدين كان بالفعل بالغ الضرر. وقال لودفيغ فيورباخ (١٨٠٤- ٧٢) إنه يغرّب الناس عن إنسانيتهم، وعدَّ كارل ماركس (١٨١٨-٨٣) الدين كعلامة على مجتمع مريض. وبالفعل فقد كان الدين الأسطوري القديم يخلق صراعاً غير صحي. كان هذا هو العصر العلمي، وأراد الناس أن يوفقوا بين تقاليدهم وبين هذا العهد الجديد، ولكن هذا كان مستحيلاً حين نفكر بأن هذه الأساطير ينبغي أن تُفهم حرفياً. وهذا سبب الجدل الذي أثاره كتاب أصل الأنواع (١٨٥٨) الذي نشره تشارلز داروين (١٨٠٩- ٨٢). لم يهدف الكتاب إلى الهجوم على الدين ولكنه كان استكشافاً رزيناً لفرضية علمية. ولكن لأن الناس في ذلك الوقت كانوا يعتقدون بقصة أصل الكون كما وردت في سفر التكوين على أنها حقيقة مطلقة، فقد شعر كثير من المسيحيين، وما يزالون يشعرون، أن صرح الإيمان برمته في خطر. وتوقّف النظر إلى أساطير الخلق على أنها صحيحة تاريخياً إلا إذا كان هدفها علاجياً. ولكن حالما تبدأ بقراءة سفر التكوين على أنه صحيح علمياً فإنك تحصل على علم سيئ ودين سيئ.
أظهر النقد الأعلى الجديد، الذي طبق المنهجية العلمية الحديثة على الكتاب المقدس نفسه أنه بات من المستحيل قراءة الكتاب المقدس حرفياً. ذلك لأن بعض مزاعمه لم تكن صحيحة برهانياً. فأسفار موسى الخمسة لم يكتبها موسى، وإنما كُتبت فيما بعد على يد مؤلفين مختلفين؛ ولم يؤلف الملك داود المزامير؛ وكانت معظم قصص المعجزات مجازات أدبية. وكانت القصص التوراتية عبارة عن "أساطير" وكان هذا يعني، في الاصطلاح الشعبي، بأنها لم تكن صحيحة. ولا يزال النقد الأعلى عدو الأصوليين البروتستانت المخيف، فهم يزعمون بأن كل كلمة من الكتاب المقدس صحيحة حرفياً وعلمياً وتاريخياً وهذا موقف يتعذر الدفاع عنه وهو يقود إلى سجال إنكاري ودفاعي.
في نهاية القرن التاسع عشر بدت القطيعة بين اللوغوس والميتوس تامة. واعتقد مناضلون مثل توماس إتش. كسلي (١٨٢٥- ٩٥) أن هناك صراعاً لا بد من خوضه، وأن على الناس أن يختاروا بين الميثولوجيا والعلم العقلاني، دون أن يكون هناك تسوية بين الطرفين. وهكذا اختزلت الحقيقية إلى "ما هو مبرهن وقابل للبرهان"، وهو ما يعني أننا إذا وضعنا الدين جانباً، فستنتفي الحقائق التي يقدمها الفن والموسيقى. ومن خلال النظر إلى الأسطورة من زاوية عقلانية جعلها العلماء الحديثون والنقاد والفلاسفة غير قابلة للتصديق. وفي سنة ١٨٨٢ أعلن فردريك نيتشه (١٨٤٤-١٩٠٠) موت الإله. وكان مصيباً بمعنى ما. فبدون الأسطورة والعبادة والطقس والحياة الأخلاقية، فإن الإحساس بالمقدس يموت. ولجعل "الإله" حقيقة مفهومية تامة لا يمكن تحقيق ذلك إلا بالفكر النقدي، لقد قام الرجال والنساء الحديثون بقتله. واعتقد المجنون في قصة نيتشه الرمزية في كتابه العلم المرح بأن موت الخالق اجتث الإنسانية من جذورها. وسأل:" هل ما يزال هناك أعلى أو أسفل؟ ألسنا تائهين كأننا في عدم لانهائي؟"
لقد ساعد التفكير والممارسة الأسطورية الناس على مواجهة احتمال الانقراض والعدم أو العبور فيه بدرجة مقبولة. وكان من الصعب على كثيرين أن يتفادوا اليأس دون التسلح بهذا النسق من التفكير. وقدم لنا القرن العشرون أيقونة عدمية بعد أخرى، وتبيّن كذب كثير من الآمال المسرفة للحداثة والتنوير. وأظهر غرق سفينة التايتانك في سنة ١٩١٢ ضعف التكنولوجيا؛ وكشفت الحرب العالمية الأولى أن العلم، صديقنا، يمكن أن يطبق أيضاً على إنتاج الأسلحة ويؤدي إلى نتائج مهلكة؛ وعبرت أفران الغاز في أوشفيتز ومعسكرات الموت السوفياتية ومجازر البوسنة عما يمكن أن يحدث حين يتلاشى أي معنى للمقدس. وهو ما أكد لنا بأن تربية عقلانية لا تخلص الإنسانية من البربرية لأن معسكر اعتقال يمكن أن يبنى إلى جوار جامعة كبيرة. وكشف انفجار القنابل الذرية فوق هيروشيما وناغازاكي عن جرثومة التدمير الذاتي العدمي في قلب الثقافة الحديثة؛ وأظهر الهجوم على مركز التجارة العالمي في ١١ أيلول ٢٠٠١ أن فوائد الحداثة (التكنولوجيا وسهولة التنقل والاتصالات الكونية) يمكن أن تُجعل أدوات للإرهاب.
[ترجمة أسامة إسبر، عن Karen Armstrong, A Short History of Myth].