أميتاڤ غوش
لو أن لتجارة التوابل مثيلة في القرن العشرين، فإنها بلا شك صناعة النفط. في قيمتها الاقتصادية الاستراتيجية، ولكن أيضًا في قدرتها على تأجيج اشتباكات سياسية وعسكرية وثقافية بين شتى الأطراف، أصبح النفط السلعة الوحيدة التي قد ترادف البهار. في الأمور التقنية، بالتأكيد أن المقارنة تميل بكل ثقلها في صالح النفط، إلا أن تجارة التوابل في النهاية ستتميز عنها في مجال واحد ألا وهو النتاج الأدبي الذي خلفته.
خلال العقود الأولى من اكتشاف الخط البحري إلى الهند، أنتج الشاعر البرتغالي لويس دي كامويس قصيدته الملحمية "اللوسياد" التي أرّخت رحلة فاسكو دي غاما ليمهد بذلك تشكل البرتغال أدبيًّا كفكرة وطنية. في المقابل، لم يطرح اشتباك النفط أي نصوص بارزة. في الإنجليزية، على سبيل المثال، لا نجد أكثر من بعض نصوص الرحلات من الدرجة الثانية بالإضافة إلى تراكم ضخم من الكتابات الأكاديمية العابرة. في مجملها لا يمكن لهذه الأعمال أن تقترب من الجودة الفنية والتميز الفكري لسرديات وسير الرحلات التي دونها أدباء القرن السادس عشر البرتغاليون أمثال دويرته بربوسا وتوم بايرس وغاسبر كويريه. أما في مجال القصيدة الملحمية، فالفكرة تبدو هزلية، سواء بالنسبة لأبطال اشتباك النفط (أي أميركا والأميركيون في كفة، وشعوب الجزيرة العربية والخليج الفارسي في الكفة الأخرى)، لأن تاريخ النفط محرج، بل أنه قد يندرج تحت المسكوت عنه أو حتى الإباحي. وفي هذه النقطة فقط، يبدو الطرفان على اتفاق.
بالرغم من ذلك، لو ثبت كون اشتباك النفط ناضبًا، فالعلة ليست فيه. فمن الصعب علينا تخيل حكاية تعبر عن درامية وأهمية هذا الاشتباك تاريخيًّا. لو وضعنا في الاعتبار بدايات هذا الاشتباك في صورة ليفنغستونية: يصل الرجل الغربي بقافلته المحملة بالآلات والأدوات فارضًا بلا تنويه وجوده على جماعات صغيرة منعزلة في أماكن هي من بين أقسى البيئات على سطح البسيطة. ومن ثم لنتأمل حاضر هذا الاشتباك بعد الحداثة: دول مشكلة من مدن حيث الجميع "أجنبي"، خليط من الأناس والثقافات لم يسبق لأحد تخيله، ونظام عبودية طبقي شرير في مقابل تراكم غير مسبوق للثروات، صحارى تتحول بفعل التكنولوجيا والقهر العسكري كما لو أنها من مشهد لنهاية العالم.
إنها حكاية تثير الذعر والعطف والذنب والغضب وأكثر، بحسب موقع المستمع. ولكن الأكيد أنها حكاية لا يمكن لأحد تجاهلها. وبذا يصبح السؤال: لماذا يفشل اشتباك النفط - أمام كل هذا – في تشكيل مخيال أدبي؟
على الجانب الأميركي، الأجوبة ليست بعيدة. بالنسبة للكثير من الأميركيين، تعطب رائحة النفط البذيئة بصراعات لابد منها حول العالم، تذكرهم بحالة اتكالية مثيرة للقلق، بالتذبذب الاقتصادي، بصناعة عسكرية باهظة وخطرة، بآلاف الضحايا من المدنيين والأطفال، وكل الأسئلة الصعبة التي تدفن مع هؤلاء في قبورهم. وكون الرائحة كريهة على مستوى الشارع، فإنها قد تصبح فتاكة مع الوقت وهي تتسرب إلى الغرف المغلقة حيث الأدب الجاد يُقرأ ويُكتب. فرائحة النفط تتطلب أكثر بكثير من شمّة الريبة التي يمارسها المثقفون الأميركيون عادة تجاه العالمين العربي والإسلامي. ولجعل الأمور أسوأ، فها هي وقد تسببت بالتلوث والمخاطر البيئية. إنها بذيئة وكريهة وبذلك لا يمكن لها أن تكون "إشكالية" للكتابة إلا ضمن لغة الحلول والاستراتيجيات.
هنالك أسباب أخرى لعدم وجود "رواية أميركية عظيمة" عن النفط، وبعض هذه الأسباب قابعة في المؤسسات التي تشكل الأدب الأميركي اليوم. فأين سنجد فصولًا دراسية تعلم طلابها شق طريقهم في المناطق المجهولة من اشتباك النفط. وهنا نجد أن حرفنة الأدب في الولايات المتحدة خلقت تأثيرًا مقاربًا جدًّا من التأثير الذي شهدته بريطانيا في عصر امبريالي آخر. يأتي هذا التأثير وكأنه يسير في خط معاكس للتمغط الجغرافي الشاسع للإمبراطورية وتدخلاتها، ليلتفت المخيال الأدبي نحو الداخل، إلى التأمل النفسي، مشغولًا بالتعريفات الذاتية. بمعنى أنه خلق مجموعة من الثيمات والمواضيع لكل منها تكنولوجيا تعليمية ثبتت فعاليتها. لنتخيل فرضًا خوض كاتب أميركي الكتابة عن اشتباك النفط. الفرضية في ذاتها مستحيلة.
وليس من العدل أن نلوح إصبع الاتهام تجاه الكتاب الأميركيين. فليس هنالك ما يكفي للكتابة: لا هم ولا غيرهم يعرفون الكثير عن التجارب الإنسانية المحيطة بإنتاج النفط، فهنالك مجهودات ضخمة كرست لإخراس اشتباك النفط. على الجانب الأميركي أو الغربي، عبر السرية التي فرضتها منظومة الشركات الصارمة. وعلى الجانب العربي، بجعل مسافة جغرافية وسكانية تفصل منشآت النفط وعمالها عن أبناء الأرض.
وبذلك، ليس غريبًا أن الروايات من نوع "سنواتي في الخليج" لم تنتشر بعد. بالنسبة للجيل الغربي الذي لعب دورًا في صناعة النفط، لا أسباب تدفعهم للحديث عن سنوات العمل تلك، كما أن تجربتهم في الشرق الأوسط منعدمة ثقافيًّا، قضوها مقيمين في مناطق نائية تتشابه وضواحيهم الغربية.
والغريب أن القصة مشابهة على الجانب العربي، مع مفارقة تطرحها الجغرافيا، أو بالأحرى الجيولوجيا، تفسر الخواء الأدبي لاشتباك النفط. فالمصادفة التاريخية شاءت أن يكون النفط بالضبط في تلك المناطق الأكثر هامشية بالنسبة للأدب العربي الحديث، بل أقصى الهامش بالمقارنة بمراكز ثقافية مثل القاهرة وبيروت.
وحتى زمن قريب، كان ساحل الخليج منطقة نائية من العالم العربي، اهتم سكانه بحياتهم البسيطة أكثر من أي طموحات ثقافية. وقد يستشعر الواحد هذه التراتبية بشكل أوضح بعدما اضطر الكتاب العرب، من بلدان ذات وضع اقتصاد متذبذب وإرث أدبي كبير مثل مصر ولبنان، العمل في دول الخليج. وبذا فإن الكاتب العربي الشاب مثل قرينه الغربي ليس أكثر استعدادًا للكتابة عن اشتباك النفط. ومهما طالت إقامتهم في الخليج أو ليبيا، فإنهم عند كتابة الرواية أو القصة يفضلون العودة للكتابة عن مناطقهم المألوفة التي مهد لها كتاب آخرون من قبلهم. بالتأكيد هناك بعض الاستثناءات مثل الرواية المتميزة "رجال في الشمس" للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، ولكن فيما عدا الأمثلة القليلة، فإن الخليج كثيرًا ما يأتي كرمز للفساد والهزيمة، وهو رمز يحمل في طياته السخط الذي يشعر به الكثيرون في العالم العربي تجاه حكومات مملكات النفط.
بالنتيجة نفهم أن ما كتب عن اشتباك النفط شحيح في كل مكان، فهذا الصمت يتعدى العربية والإنجليزية. ففي اللغة البنغالية مثلًا حيث أدب الرحلات من أبرز الأنواع الأدبية، تصدر كل عام عشرات من كتب الرحلات عن أميركا وأوروبا والصين، بالإضافة إلى القصص والروايات التي يكتبها المهاجرون عن نيو جيرسي وكاليفورنيا وشتى أجزاء أوروبا. بينما لم تأت المئات المؤلفة من متحدثي البنغالية في مملكات النفط بأي نص ذي قيمة أدبية، أو بقيمة من أي نوع حتى.
وبما أني من بين هؤلاء القلائل الذي حاولوا الكتابة عن العالم العائم للنفط، بإمكاني أن أشهد على انزلاقيته حد أنها قد تأخذ الأدب نحو منطقة مبهمة. في النهاية، قد تكون صنعة الكتابة بحد ذاتها، أو لنقل الكتابة كما نعرفها اليوم، المسؤولة عن إخراس اشتباك النفط. فالتجارب التي خلقها النفط تسير بشكل معاكس للعوامل التاريخية التي قامت بتصنيع الكتابة عبر القرنين الماضيين وأشكالها المتمايزة.
فمثلًا، جغرافيا النفط متعددة اللغات إلى حد الاضطراب، بينما بالنسبة للرواية، وبطبيعتها الحوارية، فإنها أكثر انسجامًا مع أحادية اللغة، أي الدولة القومية. وبذات الأهمية فإن الرواية ترتكز على المكان، أو إحساس المكان وقوته الخاصة في ايحاء المحيط والشعور. بينما التجارب المرتبطة بالنفط فإنها تحدث في مساحة ليست بمكان على الإطلاق، هي عالم بطبيعته مُزاح ومتعدد وأممي. يمثل هذا العالم تحديًا راديكاليًّا ليس أمام الكتابة فقط، بل حتى أمام الكثير من الثقافة الحديثة، ولمفاهيم مثل فكرة الحضارات المتباينة والمميزة، أو "المجتمعات" المنفصلة والواضحة. إنه عالم لا أجد مرادفًا أقرب له من العصور الوسطى لا الحديثة، وربما لهذا نجح عالم النفط في إبعاد نظرة الثقافة المعولمة المعاصرة عنه. الحقيقة أننا لا نملك بعد الشكل الذي بإمكانه منح اشتباك النفط التعبير الأدبي المستحق.
ولهذا السبب وحده، فإن "مدن الملح" للكاتب عبد الرحمن منيف - وهي خماسية روائية تعالج تاريخ النفط – تستحق التعامل معها باعتبارها عملًا ذا أهمية قصوى. ويحدث أن الجزء الأول من السلسلة رواية رائعة بأشكال عدة، بل حتى رواية عظيمة في بعض أنحائها، وقد ترجم هذا الجزء بيتر ثورو بعنوان "مدن الملح" وألحقها بالجزء الثاني "الأخدود".
إن نثر منيف من الصعب ترجمته لأنه ثري في مواربته وغريب في توظيفاته الجدلية، ولذا يستحق ثورو الثناء على ترجمته، خاصة مع الجزء الأول. فهو دقيق في إخلاصه للنص في روحه وحرفه، دون التضحية بإتاحة النص إلى القارئ. وحتى في تدخلاته، فإن ثورو حصرها في أمور غير مهمة مثل الترقيم وتقطيعة النص، فقد قسم النص إلى فصول مرقمة غير موجودة لأنها في الأصل قد فُصلت باستخدام المسافات والصفحات، كما أنه تخلص من طريقة منيف في إنهاء الفقرات بنقطتين بدلًا من نقطة والتي يريد بها منيف الإيحاء بالحيرة أو الفكرة الناقصة. هي تغييرات طفيفة لكنها تجعل من النص أكثر "طبيعية" من الأصل. ومن يعلم فقد يستمتع أستاذ في الأدب المقارن يومًا ما في مراجعة ترجمة ثورو ليحدثنا عن التغييرات البروتوكولية التي ترتكبها الترجمات في ترويض النصوص بالتناسب مع توقعات ثقافية أجنبية.
العنوان العربي للجزء الأول من الخماسية له معنى مثل البيداء أو الصحراء* يفرد فيه منيف ما قد يكون أفضل تسجيل وأكثره دقة في وصف حدث ميثولوجي – أو أول اشتباك به للرواية - وكأنه ينظر إليه من الطرف الخطأ لتلسكوب. تبدأ الرواية، كما يجب، في واحة يدل اسمها على أنها المصدر، أو نقطة البدء "وادي العيون" في "وسط الصحراء القاسية العنيدة، تنبثق هذه البقعة الخضراء". بالنسبة للقوافل التي تقطع الوادي من وقت إلى آخر، كما بالنسبة لسكانه، يعتبر الوادي "جنة على الأرض" وعلى الأخص بالنسبة لمتعب الهذال، وهو رجل مسن من قبيلة العتوم:
"لو ترك لمتعب الهذال أن يتحدث عن وادي العيون لقال كلامًا لا يصدقه أحد، لأنه لا يقتصر على طيب الهواء وعذوبة الماء الذي لا يتوقف يومًا واحدًا في السنة، ولا عن روعة الليل، إنه يضيف أشياء أخرى كثيرة خارقة، ويروي قصصًا يعود بعضها إلى أيام نوح، كما تؤكد العجائز!".
وسريعًا ما لاحت طلائع مريبة لتعكر صفو هذه الجنة. ففي مساء ما وقت الغروب، عاد أحد أبناء متعب من سقي ماشية العائلة ليخبر والده بوصول "ثلاثة أجانب، ومعهم اثنان من عرب الزور، ويتكلمون العربية" مضيفًا أن "الناس يقولون انهم جاءوا ليبحثوا عن الماء". ولكن متعب حين ذهب لتفقد الأمر بنفسه، رآهم "يذهبون إلى أماكن لا أحد يفكر بالذهاب إليها. يجمعون أشياء لا تخطر ببال. معهم قطع حديدية لا يعرف الإنسان ما هي أو ماذا يفعلون بها". ليستنتج "أكيد هؤلاء لم يأتوا من أجل الماء، إنهم يريدون شيئًا آخر. ولكن ما عساهم يريدون؟ وأية أشياء في هذه الفلاة غير الجوع والرمل والعجاج؟".
سمع أهالي الوادي الأجانب يطرحون الأسئلة "عن القبائل ولهجاتها ونزاعاتها، ثم عن الدين والمذاهب، وعن الطرق والرياح ومواعيد المطر" وأما "كلمة الشهادة التي يرددونها حين يطلب منهم ذلك، ثم الأحاديث التاريخية الطويلة، فقد دفعت الكثيرين من أهل الوادي إلى سؤال أنفسهم ثم التساؤل فيما بينهم إن كان هؤلاء مسلمين أم أنهم جن، لأن بشرًا مثلهم يعرفون كل ذلك، ويتكلمون العربية، ولا يصلون وليسوا مسلمين، لا يمكن أن يكون أمرهم طبيعيًّا".
فهم متعب من هذه الطلائع أن مصيبة ستحل على الوادي وأهاليه، لكنه لا يعلم ما هي المصيبة ولا كيف يتفاداها. ثم فجأة يرحل الأجانب فيسترخي أهالي الوادي ويمارسوا حياتهم بطرقها المعتادة ولو ببعض الريبة.
إلا أن الأجانب عادوا بعد وقت قصير. تحولت الإشارة إليهم من "أجانب" إلى أميركيين، انتشروا في كل مكان يحفرون ويجمعون ويوزعون "ليرات الذهب الإنكليزية والرشادية". ينجح أسلوبهم المنفتح في اكتسابهم أصدقاء في الوادي، لكن حتى الأقرب منهم ينذهل من أفعالهم "في الصباح فإنهم يصلون بطريقة عجيبة. إذ يبدأون برفع أيديهم وأرجلهم في الهواء، ويحركون أجسامهم كلها ذات اليمين وذات اليسار، ولا يتوقفون إلا بعد أن يزخهم العرق ويبدأوا باللهاث". ثم تصل مجموعة من "الآلات الجهنمية الصفراء" التي يتعجب لها أهل الوادي: "هل يمكن لإنسان أن يقترب منها ويظل سالمًا؟ وماذا تفعل وكيف تتصرف وهل تأكل مثل الحيوانات أم لا تأكل أبدًا؟" توجسًا من الأسوأ، يذهب أهالي الوادي إلى أميرهم للاعتراض، ليجيبهم أن هؤلاء "جاءوا من تلفات الدنيا ليساعدونا" لأن "تحت أرجلنا بحار من النفط".
قمع الأمير اعتراضاتهم، أما أمثال متعب الهذال فتم تهديدهم بالقتل، وسريعًا ما اقتلعت الأشجار وهدمت الديار على يد الآلات الجهنمية الصفراء. وعلى أطلال واديه الحبيب، ركب متعب "ناقته العمانية البيضاء" ليختفي بين التلال، وكأنه طيف نبي لا يبرز من الصحراء إلا لينذر بفاجعة أو ليبث الذعر في نفوس المتعاونين مع رجال النفط. أما بالنسبة لعائلة متعب وبقية أهالي الوادي، فقد تم نقلهم في قوافل الجمال. بعضهم اتجه إلى مستعمرة ساحلية اسمها "حرّان" حيث ستبني المنشآت النفطية الجديدة أحياء من البيوت الطينية المنخفضة. منطقة لا شك أنها بدت كما كانت عليها الكويت أو الدوحة قبل عدة عقود.
بعد ذلك، تتابع سردية منيف مراحل تحول حرّان: بناء الطرق ووفود سكان جدد، بناء المنشآت النفطية، والميناء وقصر الأمير. وفي ورديات العمل، يتناوب العمال العرب والمدراء الأميركان على تشكيل منطقتين: حران العربية وحران الأميركية. كل مساء، بعد انتهاء العمل، يذهب الرجال إلى بيوتهم في المنطقتين مثل سيول على منحدرين، واحدة ضيقة وأخرى عريضة، يذهب الأميركيون إلى معسكرهم والعرب إلى معسكرهم، الأميركيون إلى حمامات السباحة حيث ثرثرتهم تصل إلى مسامع الواحد خلف الحيطان المسيجة. وحين يحل الصمت يفهم العمال أن الأميركيين قد دخلوا غرفهم المكيفة بستائرها السميكة التي تمنع عنهم كل شيء: الشمس والغبار والذباب والعرب.
لم تعد حران تنتمي لأصحابها كما أنهم لم يلعبوا دورًا في عملية بناء مدينتهم الجديدة. ويتجلى ذلك في حكاية سفينة الراحة والترفيه التي تزور مدينة النفط غير المكتملة بعد لعيون الأميركيين المقيمين فيها:
"وأهل حران وهم يقتربون خطوة بعد خطوة، دون شعور منهم، وكأنهم منومون، يزدادون دهشة وعجبًا. كانوا لا يصدقون ما ترى أعينهم، وما تسمع آذانهم. هل يوجد شيء مثل هذا، سفينة مثل هذه، بهذا الحجم، بهذه الروعة؟ هل يوجد في العالم هذا النوع من النسوة اللواتي يشبهن الحليب والتمر معًا ببياضهن المحروق؟ ولا يتصور أحد أن يقمط الرجال النساء دون خجل، دون خوف من الآخرين؟ والنسوة.. هل هن زوجات أم عشيقات أم شيء آخر؟".
ليلًا ونهارًا، شاهد أهالي حران الأميركيين في مدينة النفط يقضون وقتهم مع النساء التي جاءت بهن السفينة، وبمجرد أن رحلت السفينة "حتى طقت خصاوي الرجال من شوفات الأمس". وبهذا الحدث، يبدأ تاريخ مدينة الملح هذه:
"إنه اليوم الذي يؤرخ لحران: متى قامت وكيف قامت، لأن الكثيرين لا يتذكرون حران قبل هذا اليوم. حتى أبناء حران ذاتها الذين كانوا في هذا المكان منذ وقت بعيد، والذين خافوا حين وصلت المجموعة الأولى من الأميركيين، وخافوا أكثر حين رأوها تزرع الشاطئ والتلال، أهل حران الذين ولدوا وعاشوا هنا، والذين حزنوا كثيرًا حين أبلغوا أن بيوتهم سوف تهدم، فاستعادوا أحزانًا قديمة، كما تذكروا الموتى والمسافرين، إن هؤلاء أنفسهم يتذكرون يوم وصول تلك الباخرة أكثر من أية أيام أخرى، بمزيج من العجب والخوف والدهشة، حتى ليكاد يصبح التاريخ الوحيد الباقي في ذاكرتهم".
إن خطأ الجزء الأول من مدن الملح يظهر في الخلاصة حيث تنتهي الرواية باشتباك درامي بين حران القديمة والجديدة: بين عالم يجلس فيه الأمير في المقاهي يدردش مع البدو، عالم يتوفر لدى الواحد منهم كل الوقت لقضائه مع الآخرين، لا يصاب فيه أحد بمرض بليغ يتطلب علاجًا يباع مقابل المال، عالم لا يوجد فيه السيد ميدلتون لتكون مصائرهم بين يديه، أو يقوم الدكتور اللبناني صبحي المحملجي "طبيب وجراح، متخصص في الأمراض المعدية والباطنية، جامعتي فيينا وبرلين" بطلب مبالغ هائلة مقابل أقل الخدمات، عالم لا يتجسس فيه الأمير على رعيته عبر تلسكوب ومن تحته فريق من الشرطة السرية يبلغونه عما يخطر على بال الأهالي. "منذ أن جاء الأميركان جاءت معهم العفاريت والمعاصي والمصائب" يقول أحد سكان حران، مشيرًا إلى معسكر الأميركان "ولا أحد يعرف ماذا سيحصل في الأيام الآتية".
وتصل القصة ذروتها الدرامية عندما تقع سلسلة من الأحداث أولها عملية اغتيال على يد البوليس السري، فظهور طيف متعب الهذال، ثم فصل اثنين وثلاثين من العمال مما دفع عمال حرّان بعفوية إلى فكرة الإضراب ليتوقفوا عن العمل يجوبون المعسكر هاتفين:
جوهر خبّر دولتك
اللي بنوا البيب سباع
والرجال تحمي حقوقها
وما تصير للأميركان متاع
وهذي الديرة ديرتنا
ومن بعد، وبقيادة اثنين من أبناء متعب الهذال، يقتحم العمال منشأة النفط متحدين حراس المنشأة والبوليس السري، لينقذوا بعضًا من رفاقهم العمال ممن اعتقلوا داخلها. وبذا ينتهي الكتاب الأول من الخماسية بانتصار العمال. يهرب الأمير المخبول من المدينة بعدما أمر شركة النفط بإعادة تعيين العمال المفصولين.
أتفهم لما استسلم منيف لرغبة وضع نهاية متفائلة لكتابه، فالقصة التي يقدمها مؤلمة وقاسية، تحكي ببطء ولوعة حكاية تركيع أناس على يد أناس آخرين. سردية منيف بها القليل من المرارة، وفعاليتها تتركز في التراكم التدريجي للتفاصيل. رجال النفط الأميركان لدى منيف ليسوا بجشعين ولا بشعين. بل على العكس، يتحلون بالطموح والفضول والمهنية. حينما يُدعون إلى عرس عربي، يسألون عن كل شيء "عن الأسماء والملابس والطعام، كما سألوا عن اسم العريس والعروس، وما إذا كان الاثنان يعرفان بعضهما من قبل، وما إذا التقيا أم لا... كانت دهشة الأميركيين تزداد وتقوى مع كل حركة". وبذا فإن أهالي حرّان لا يعيشون انكسارهم الذليل عبر المواجهة المباشرة، بل على العكس، يأتي انكسارهم من تجاهلهم، من كونهم لا يؤخذون بجدية، مجرد عقبة ضمن عملية تقنية مطولة في تنقيب النفط.
إلا أن أسلوب منيف أكثر فعالية من غيره في التعبير عما يشعر به الكثيرون في الشرق الأوسط من عجز في استعادة بعض التقدير الذاتي، أو حتى الانكسار الذي تشاركه الكثير من السعوديين بعد هزيمة الجيش العراقي وكأنها هزيمتهم. إلا أن الواقع أكثر سوداوية من نسخة منيف، والنهاية التي اختارها جاءت من باب التمني لا أكثر. بل أنها قد تكون مدفوعة بتاريخ منيف نفسه عن تاريخ النفط في الخليج.
ولد عبد الرحمن منيف في العام ١٩٣٣ لعائلة سعودية الأصل استقرت في الأردن، وقد تم تجريده لاحقًا من الجنسية السعودية لأسباب سياسية. درس في بغداد والقاهرة، وتحصل على دكتوراه في اقتصاد النفط من جامعة بلغراد في تلك الحقبة الاشتراكية التيتوية** حيث مؤلفات الأدباء التقدميين كثيرًا ما تنتهي بانتصار العمال. ومن وقتها فإن منيف قضى أغلب حياته يعمل في قطاع النفط في منطقة الشرق الأوسط في زوايا منعزلة منه مثل احتلاله مناصب مهمة في وزارة النفط السورية ومن ثم العمل كرئيس تحرير لمجلة "النفط والتنمية" العراقية.
يعي منيف أكثر من غيره أن النهاية التي كتبها ليست سوى فنتازيا للهروب من الواقع. فهو يعرف أن القوى العاملة في شركات نفط الجزيرة العربية لم يسبق لها أن نجحت في أن تكون فعالة سياسيًّا. وعندما أبدوا بعض الاعتراضات خلال الخمسينيات، قام الحكام بقمعهم بقسوة وفعالية بمساعدة شركات النفط. وخلال السبعينيات والثمانينيات، حرصت مشايخ النفط (ومن يعلم من يديرها في الحقيقة) على تنفيذ استراتيجية دقيقة في تنظيم العمال عبر إبقاء أعداد العمال العرب عند نسبة معينة، مع استيراد أعداد هائلة من العمال من دول آسيوية فقيرة.
أثبتت الاستراتيجية نجاحها السحري خلال فترة قصيرة لتخلق طبقة من العمال مفصولة عن السكان المحليين كما أنها مفصولة فيما بينها عبر حاجزي الثقافة واللغة، لتستحيل طبقة سياسية مسلوبة بدرجة غير مسبوقة في تاريخ الحركات العمالية في العالم العربي. طبقة عاجزة تقع تحت ترهيب الترحيلات. بل أنها طبقة هيلوتس*** لا حقوق لها ويتعرض أفرادها لأبشع أنواع العنف الجسدي. تجربة هؤلاء تجعل من خطاب حقوق الإنسان الذي واكب حرب الخليج الثانية محل سخرية، فهي تثبت حقيقة أن الحرب لم تغير أي شيء فيما يخص قوانين العمل في مشايخ النفط، وتؤكد الاعتقاد المشترك عند الملايين من الناس في أفريقيا وآسيا بأن "النظام العالمي الجديد" مصمم لحماية حقوق مجموعات معينة على حساب أخرى.
ولذلك فإن تداعيات حركة عمالية سياسية مثل التي يصفها منيف في مدن الملح لا يمكن أن تريح القلب كما يريد لها. ولكن إن كنا سنتهم منيف بالسذاجة على اختياره هذا، فعلى الأقل أنه يستحق الثناء على فهمه أن مكان العمل – حيث تولد الديمقراطية – هو أيضًا المكان الذي شيدت عليه أساسات السلطة الشمولية المعاصرة في مشايخ النفط.
اليوم، تتحدث وسائل الإعلام الغربية عن انهيار آمال الديمقراطية في الجزيرة العربية باعتبارها نتاج تغييرات جلبها اقتصاد النفط أدت لتفسخ المجتمع "التقليدي". في الحقيقة كثيرًا ما يكون العكس صحيحًا: النفط وما جاء به من تحولات العامل الرئيسي في قمع أي آمال وجهود ديمقراطية شهدتها المنطقة.
في مكان مثل البحرين، الذي سبقت أهميته التجارية اكتشاف النفط، شكلت مجموعات التجار والمهنيين والعمال الحرفيين ما يشبه طبقة وسطى. وتبنى أغلب هؤلاء أيديولوجيات الحركات القومية من بلاد مجاورة مثل الهند ومصر وإيران. لكن آمالهم الطليعية وقعت ضحية أولى لمخلوق النفط الوحشي والعبثي: فها هو حاكم البترول بدشداشته البيضاء يحكمهم مدججًا بأسلحة الزينة. إنه المخلوق الذي يقوم منيف بتوثيق تطوره في الجزء الثاني من مدن الملح "الأخدود".
المؤسف أن "الأخدود" مخيبة للآمال فالحكاية تذهب بعيدًا عن حرّان نحو مدينة أخرى هي "موران" والتي أقيم فيها عرش الأسرة الحاكمة. وبالانتقال إلى العاصمة فإن الحكاية تصبح عن حكام البلاد.
تأتي "الأخدود" كقصة مشتركة لمشايخ النفط في الجزيرة العربية لتبدأ بوصول سلطان اسمه خزعل إلى السلطة وتنتهي بإسقاطه من قبل فريق آخر من الأسرة الحاكمة. يصف منيف التحولات التي تحدث خلال عهد خزعل عبر متابعة مسيرة أحد مستشاريه، طبيب لبناني اسمه صبحي المحملجي والذي لعب مسبقًا دورًا رئيسيًّا في نشأة حران الجديدة. تحمل القصة بعض الإمكانيات لكن صوت منيف لا يتصدى لمتطلباتها السردية، ليفقد نبرته الاستكشافية، نبرة الفضول المنفصل التفحصي، الذي أضفى صبغة السحر على الجزء الأول. كما لم يعوض منيف عن ذلك بكثافة أو ثراء التلوين الذي تتطلبه منه مادة الرواية.
يتحول منيف إلى السخرية تحولًا سريعًا ما يثبت أنه كارثي. هي محاولة شجاعة فكتب منيف لم تمُنع في الجزيرة العربية عبثًا، إلا أن السخرية تنهزم عند توجيهها نحو رموز مثل السلطان خزعل وأسرته. فلا أحد، روائي أو غيره، سينجح في السخرية من الأسر الحاكمة للجزيرة العربية أكثر منهم أنفسهم. وكما نعلم من التقارير الغزيرة في الصحف اليومية، فإن قصص أفعالهم كافية وحدها لتسلية مخيلة الواحد. في عيون العالم، عربي أو غيره، لا تظهر شخصية شيخ النفط سوى باعتبارها كاريكاتورًا، فهو رمز القرن العشرين للانهيار والنفاق والفساد. وبذا فإن هذه الشخصية تُفرغ أي احتمالات للسخرية. لم يكن الأمر كذلك سابقًا فغرائب وعجائب الجيل الأول من شيوخ النفط ناتجة عن تحول تاريخي تراجيدي. إلا أن منيف في النهاية ينتهي بتسطيح هذه التعقيدات عبر رسم كاريكاتوري لشخصية السلطان خزعل.
حتى في بعض اللحظات الناجحة، تقوم سخرية منيف على نوع من النوستالجيا، إنصات رومانسي نحو ماض نقي خالص. فلا يمثل أميركيو النفط وحدهم الدخلاء بل كل "أجنبي" إلى حد ما يعتبر دخيلًا على حران وموران. وبالنتيجة يتجاهل منيف عناصر تاريخ مملكات النفط التي بإمكانها الهام فضوله، بما في ذلك المزيج الهائل للثقافات والناس واللغات الذي نتج عن اشتباك النفط.
كما لا يلعب عمال آسيا أي دور في قصة منيف. وإن ظهروا، فإما يأتي ذلك عبر صور نمطية (الدكتور الباكستاني في الجزء الأول يحمل اسم محمد جناح) أو باعتبارهم حشودًا بلا وجوه، رمزًا عبثيًّا: "في وقت من الأوقات كانت حران مدينة الصيادين والمسافرين العائدين، أما الآن فلم تعد مدينة لأحد، إنهم كل البشر ولا انسان. اللغات إلى جانب اللهجات والألوان والديانات".
المفارقة في "الأخدود" أنها تجعل من كاتبها سجينًا لضحيته المقصودة. فبمجرد أن ابتعد منيف عن المراحل الأولى لاشتباك النفط، حيث كل جانب له دوره الواضح وصفاته وهوياته، حتى وجد نفسه أمام واقع أكثر تعقيدًا - حيث الجزيرة العربية مليئة بالحشود المتعددة اللغات والأصوات – وعندها فشل الروائي في تحرير نفسه من سجن رهاب الأجانب والكراهية والعنصرية وهو ذات السجن الذي خلقته شخصيات مثل السلطان خزعل. وفي فشلها هذا، تقدم لنا "الأخدود" درسًا آخر في الصعوبات التي تضعها تجربة النفط أمام المخيلة الروائية.
[نشرت المقالة في The New Republic، ترجمة منى كريم].
الهوامش:
* العنوان في الأصل العربي هو «التيه».
** نسبة إلى جوزيف تيتو، أول رئيس لجمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية.
*** طبقة عبيد الدولة في إسبرطة القديمة.